الأحد، 4 يناير 2015

الهندسة وتغيير الأخلاق والقيم


الهندسة وتغيير الأخلاق والقيم
م. ناجي منصور إبراهيم محمد
مقال نشر في مجلة المهندس السودانية
من المعروف عند أهل العمران وعلوم الاجتماع أن الإنسان يتأثر ببيئته إلى حد كبير، فأبناء البادية أسرع بديهة وأغلظ خلقاً من أهل الحضر. وسكان السهول ألين خلقاً من سكان الجبال. ومن المعروف أن سكان المدن العمالية يختلفون عن ساكني الأرياف الزراعية. وقد أكدت الدراسات الحديثة أن القيم عند طلاب القرى مثلاً أكثر رسوخاً ووضوحاً منها عند طلاب الحضر. فلأي مدى تؤثر البيئة المصنوعة(هندسياً)علي قيمنا وأخلاقنا ومن ثم سلوكنا؟


إن الخلق هو الطبع والسجية ونقول أن فلاناً أخلاقه حسنة أي طباعه وسجاياه حسنة مقبولة. أما القيم فهي كل ما نضع له
مكانة خاصة عالية من الأخلاق والمعاني. كما هي معايير للاختيار في المواقف الاجتماعية. فنحن نختار أن نفعل شيئاً أو لا نفعله وفقاً لقيمنا، فأنت لا تكذب لأن قيمة الصدق عندك قوية واضحة. فإذا ضعفت قيمة الصدق عندك كذبت دون شعور بالذنب. والأخلاق التي نقدرها ونقيمها مثل الكرم والشجاعة والصدق والأمانة مثلاً تصبح موجهة لسلوكنا وتعاملنا مع الناس من حولنا.
الآن لنسأل ما علاقة الهندسة بالقيم والأخلاق؟. وهل تؤثر الهندسة عليهما؟. وإلى أي مدى؟.
إن تصميم المساكن وأماكن العمل كالمكاتب وقاعات الدرس أو صالات الإنتاج اﻟﻤﺨتلفة يؤثر بصورة مباشرة علي سلوك
من يستعملون هذا المبني. فالمباني الضيقة مثلاً تؤثر علي شعور الإنسان بالراحة وقد يصل الأمر بالبعض إلي حد الخوف المرضي من الأماكن الضيقة أو المغلقة أو العالية. كما أن المناطق ذات الإضاءة والتكييف المناسب تزيد من  قدرة الناس الذهنية بصورة ملحوظة. وقد دلت الدراسات التي قام بها علماء النفس وعلماء الإجتماع أن الأماكن الواسعة تؤثر علي قيم مثل الصبر والتعاون فالذين يعيشون في مناطق سهلية واسعة أو صحراوية واسعة أو حتي ثلجية واسعة
ترتفع عندهم قيم وأخلاق المروءة والنجدة بصورة ملحوظة. ومن الملاحظ حتى كاد أن يكون مسلماً به أن الذين يسكنون في المساكن متعددة الطوابق والتي تضم عدداً كبيراً من الأسر اﻟﻤﺨتلفة تكون علاقاتهم الاجتماعية ضعيفة إلى حد كبير. وترتفع عندهم روح الفردية (عدم الإهتمام بالغير أو الأنانية) مقارنة بالذين يسكنون في منازل مستقلة متجاورة، حيث تكون المنازل مفتوحة وتتداخلالأسراﻟﻤﺨتلفةمع بعضها البعض. وغني عن القول أن تصميم المدن الصناعية والتي يتم فيها بناء مساكن لكبار الموظفين بعيدة عن صغار الموظفين والعمال يخلق جفوة اجتماعية و اختلافاً في المفاهيم والسلوك بين الفئتين. كما أن المدن الكبيرة يزداد فيها عدد ونوع الناس الذين يتخالطون في مجتمعها، فيقل الحياء وتزيد الفردية. وكلما كبرت المدن زادت فيها المشاكل الاجتماعية وقل التواصل حتى في الأسرة الواحدة. ومن الملحوظ أن
وجود المساحات الخضراء المناسبة مثلاً تزيد من التواصل الاجتماعي وتقوي العلاقات الأسرية بنحو أفضل.
الناس عادةلايلحظون التغيرات الإجتماعية بسهولة، إلا أن كبار السن من ذوي الخبرة والدراية يمكنهم أن يحدثوك عن التغيرات التي دخلت عليهم بعد أن بدأ مشروع كذا. وماذا حدث بعد أن تم تغيير الطرق وتغيير المساكن وبناء السوق الجديد وتوزيع الخطة الإسكانية في موقع كذا وكذا. إن هذه التحولات الإجتماعية والتي تتبع التحولات العمرانية تحدث نتيجة لتغير تركيبة اﻟﻤﺠتمع أو تغير أنماطه المعيشية ومن ثم علاقاته الداخلية. إذا قمنا بعمل التغييرات في نظام عيش الناس وأسلوبهم في الحياة دون دراسة متأنية لأوضاعهم الحياتية ونظمهم الإجتماعية وأعرافهم الحالية والتي ستجد بعد التغييرات؛ إذا قمنا بهذا دون وعي كاف ودراسة متأنية سينتج مجتمع جديد بعد القيام بالتغييرات في المباني وطريقة السكن والحياة. هذا اﻟﻤﺠتمع الجديد يبدأ متحولاً بالتدريج من أصله الذي كان نحو واقع جديد مختلف؛ وقيم جديدة تتناسب مع شكله الجديد. ومفاهيم جديدة تتماشي كذلك مع الواقع الجديد.
فالكثيرون منا تغيرت حياتهم بتغير البيئة التي ولدوا ونشأوا فيها. وهذا يحدث عادة كاستجابة لتحديات الحياة الجديدة بوقعها اﻟﻤﺨتلف وظروفها اﻟﻤﺨتلفة كذلك. فخذ مثلاً الكثير من الأسر المحافظة والمستقرة والتي تعيش في بيئات شبه ريفية أو حضرية محافظة وتنتقل بعد ذلك للعيش في المدن الكبير شديد الإزدحام. فما أن يبدأوا مباشرة حياتهم الجديدة حتي تواجههم الإختلافات في طرق الحياة ومفاهيمها، ورويداً رويداً يبدأون في التأقلم مع واقعهم الجديد الذي نشأ من التغير في تصميم المساكن والمسالك و المتاجر والمكاتب والمدارس وغير ذلك.
إن إحياء القيم أو تعزيزها لايتم فقط بالإرشاد والتربية، بل يتم أيضا بعمل التصميمات الهندسية التي تمس حياة الناس في مختلف مجالاتها بصورة تراعي القيم والأخلاق والأعراف جنباً إلي جنب مع مراعاتها لمواصفات الجودة والسلامة
والصحة. فنحن كبشر استطعنا أن نصل إلي المريخ ولم ننجح في التواصل مع جيراننا علي بعد أمتار قليلة. واستطعنا
إنتاج أفخر أنواع الأطعمة بينما لا تزال صحتنا أقل من أسلافنا. ولدينا مباني أكبر وحكمة أقل. وطورنا أفضل سبل الإتصالات بينما تواصلنا الإنساني يضعف يوماً بعد يوم. وطورنا أساليب التدريس وقل الإحترام لدي أبنائنا.
بعد كل ما تقدم من حيثيات نحن بحاجة ماسة للوقوف قبل كل تصميم نقوم به.فلا يكفي أن نراعي الصحة والبيئة والسلامة والجودة فقط، بل نحن محتاجون في المقام الأول أن نراعي إنسانية الإنسان وقيمه الاجتماعية وأعرافه وتقاليده، ونراعي بيئته فلا ننقل تصميم المناطق الباردة للمناطق الاستوائية مثلاً. ولا تصميم مجتمع ﻟﻤﺠتمع آخر. فتصميم المسكن أو مكان العمل يجب أن يكون مناسباً لإنسان يهتم بأخيه الإنسان ويبادله الاحترام والمودة والتعاون.
فكثير من تصاميمنا الحالية ساعدتنا أن نكون آلات إنتاج جيدة وليس بشراً جيدون. و التخطيطالعمراني والحضري يحتاج لهذه الوقفة أكثر من تصميم المباني. فبناء الأمم أكبر من بناء القمم. كما أن النجاح الحقيقي للإنسانية ليس في نسخ نجاحات الأمم بل في إن نساعد كل أمة لتنجح وفق قيمها هي وأعرافها هي ونعترف بتعدد الثقافات والحضارات. فالثقافة والحضارة ما هما إلا تعبيران عن ما في عقول الناس من معاني ومفاهيم وقيم وأخلاق تتجسد في ما يبنونه ويلبسونه يأكلونه و يفرحون فيه أو يظهر حزنهم.فإن ذهبت تغير كل هذا دون وعي غيرت معه أعرافهم ومفاهيمهم وتقاليدهم كذلك.وأقوي مثال علي ذلك ما يوجه المهاجرين في مدن كبيرة مثل نيويورك أو باريس أو موسكو.
فإذا كانت الهندسة تراعي كل ذلك كانت هندسة حقيقية تبني اﻟﻤﺠتمعات من حيث المباني والمعاني. وليست طبيقاً أعمي
لحسابات وأرقام وقواعد باردة.


من كتاب صناعة القيم صناعة التاريخ